منوعات
محمد عبدالله مادبو جامعه الزعيم الازهزي

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منوعات
محمد عبدالله مادبو جامعه الزعيم الازهزي
منوعات
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
بحـث
 
 

نتائج البحث
 


Rechercher بحث متقدم

سحابة الكلمات الدلالية

المواضيع الأخيرة
» اجمل روايات الحب
ذاكره الجسد  Emptyالجمعة سبتمبر 28, 2018 7:00 pm من طرف Admin

» ذاكره الجسد
ذاكره الجسد  Emptyالثلاثاء يوليو 10, 2018 2:49 pm من طرف Admin

» ذاكره الجسد
ذاكره الجسد  Emptyالثلاثاء يوليو 10, 2018 2:40 pm من طرف Admin

» ذاكره الجسد
ذاكره الجسد  Emptyالثلاثاء يوليو 10, 2018 2:37 pm من طرف Admin

» ذاكره الجسد
ذاكره الجسد  Emptyالثلاثاء يوليو 10, 2018 2:29 pm من طرف Admin

» ذاكره الجسد
ذاكره الجسد  Emptyالثلاثاء يوليو 10, 2018 2:26 pm من طرف Admin

» ذاكره الجسد
ذاكره الجسد  Emptyالثلاثاء يوليو 10, 2018 2:24 pm من طرف Admin

» ذاكره الجسد
ذاكره الجسد  Emptyالثلاثاء يوليو 10, 2018 2:22 pm من طرف Admin

» ذاكره الجسد
ذاكره الجسد  Emptyالثلاثاء يوليو 10, 2018 2:19 pm من طرف Admin

أبريل 2024
الإثنينالثلاثاءالأربعاءالخميسالجمعةالسبتالأحد
1234567
891011121314
15161718192021
22232425262728
2930     

اليومية اليومية

التبادل الاعلاني

انشاء منتدى مجاني



أفضل الكلمات الدليلية الموسومة


ذاكره الجسد

اذهب الى الأسفل

10072018

مُساهمة 

ذاكره الجسد  Empty ذاكره الجسد




للكاتبه/احلام مستغانمي
الفصل الثالث
الجزء الثاني

كان الموضوع ذلك اليوم هو رسم موديل نسائي عارٍ. وبينما كان جميع الطلبة متفرغين لرسم ذلك الجسد من زواياه المختلفة، كنت أنا أفكِّر مدهوشاً في قدرة هؤلاء على رسم جسد امرأة بحياد جنسيّ، وبنظرة جمالية لا غير، وكأنهم يرسمون منظراً طبيعياً أو مزهرية على طاولة، أو تمثالاً في ساحة.

من الواضح، أنني كنت الوحيد المرتبك في تلك الجلسة. فقد كنت أرى، لأول مرة، امرأة عارية هكذا تحت الضوء تغير أوضاعها، تعرض جسدها بتلقائية، ودون حرج أمام عشرات العيون؛ وربما في محاولة لإخفاء ارتباكي رحت أرسم أيضاً. ولكن ريشتي التي تحمل رواسب عقد رجل من جيلي، رفضت أن ترسم ذلك الجسد، خجلاً أو كبرياء لا أدري.. بل راحت ترسم شياً آخر، لم يكن في النهاية سوى وجه تلك الفتاة كما يبدو من زاويتي.. وعندما انتهت تلك الجلسة، وارتدت تلك الفتاة التي لم تكن سوى إحدى الطالبات ثيابها، وقامت بجولة كما هي العادة لترى كيف رسمها كلّ واحد، فوجئت وهي تقف أمام لوحتي، بأنني لم أرسم سوى وجهها. قالت بلهجة فيها شيء من العتاب وكأنها ترى في تلك اللوحة إهانة لأنوثتها: "أهذا كلّ ما ألهمتك إيّاه؟" فقلت مجاملاً: "لا، لقد ألهمتني كثيراً من الدهشة، ولكني أنا أنتمي لمجتمع لم يدخل الكهرباء بعد إلى دهاليز نفسه. أنت أوَّل امرأة أشاهدها عارية هكذا تحت الضوء، رغم أنني رجل يحترف الرسم.. فاعذريني. إن فرشاتي تشبهني، إنها تكره أيضاً أن تتقاسم مع الآخرين امرأة عارية.. حتى في جلسة رسم!".

كنت تستمعين إليّ مدهوشة، وكأنك تكتشفين فيّ فجأة رجلاً آخر لم تحدثك عنه جدّتك. كان في عينيك فجأة شي جديد، نظرة غامضة ما، شيء من الإغراء المتعمّد، ربما سببه غيرة نسائية من امرأة مجهولة، سرقت في يوم ما اهتمام رجل لم يكن حتى الآن مهماً بالنسبة إليك.

رحت أتلذّذ بذلك الموقف العجيب الذي لم أتعمده. كنت سعيداً أن تثير فيك الغيرة هذا الصمت المفاجئ، وهذه الحمرة الخفيفة التي علت وجنتيك، وجعلت عينيك تتّسعان بغضب مكبوت. فاحتفظت لنفسي ببقية القصة.. لم أخبرك أن هذه الحادثة تعود لسنتين، وأنَّ صاحبتها ليست سوى كاترين، وأنه كان عليّ فيما بعد أن أقدم لجسدها اعتذاراً آخر.. يبدو أنه كان مقنعاً لدرجة أنها لم تفارقني منذ ذلك الحين!

أذكر اليوم بشيء من السخرية، ذلك المنعطف الذي أخذته علاقتنا فجأة بعدما حدّثتك عن تلك اللوحة.. عجيب هو عالم النساء حقاً! كنت أتوقع أن تقعي في حبي، وأنت تكتشفي تلك العلاقة السرية التي تربطك بلوحتي الأولى "حنين". لوحة في عمرك وفي هويتك. وإذا بك تتعلقين بي بسبب لوحة أخرى لامرأة أخرى، تعبر الذاكرة خطأ!

انتهى موعدنا الأول عند الظهر.

كان عندي إحساس ما إنني سأراك مرة أخرى.. ربما غداً. كنت أشعر أننا في بداية شيء ما، وأننا كلينا على عجل. كان هناك كثير من الأشياء التي لم نقلها بعد، بل إننا لم نقل شياً في النهاية. نحن أغرينا بعضنا فقط بحديث محتمل. كنّا، عن سذاجة أو عن ذكاء، نمارس اللعبة نفسها معاً، ولذا لم أتعجب كثيراً عندما سألتني وأنت تودّعينني:

- هل ستكون هنا غداً صباحاًً؟

قلت لك بسعادة من ربح الرهان:

- طبعاً.

قلت:

- سأعود إذن غداً في الوقت نفسه تقريباً، سيكون لنا متَّسع أكثر للحديث. لقد مرّ الوقت بسرعة اليوم دون أن ننتبه لذلك..

لم أعلّق على كلامك. كنت أدري أن لا مقياس للوقت سوى قلبينا. ولذا فالوقت لا يركض بنا إلا عندما يركض بنا القلب لاهثاً أيضاً من فرحة إلى أخرى، ومن دهشة إلى أخرى.. ولذا وجدت في كلامك اعترافاً بفرح مشترك سرّيّ.. توقعت أن يتكرَّر.

أذكر أنني قلت لك يومها وأنا أودِّعك عند باب القاعة:

- لا تنسي كتابك غداً.. أريد أن أقرأك.

قلت متعجبة:

- أتتقن العربية؟

قلت:

- طبعاً.. سترين ذلك بنفسك.

قلتِ:

- سأحضره إذن..

ثم أضفت بابتسامة لا تخلو من كيدٍ نسائي محبّب:

- مادمت تصرّ على معرفتي.. لن أحرمك من هذه المتعة!

وانغلق الباب خلف ابتسامتك تلك، دون أن أفهم ما كنت تعنيه بالتحديد.

ذهبت بالغموض الضبابي الذي جئت به.. نفسه. وبقيت عند عتبة ذلك الباب الزجاجي، أتأملك تندمجين بخطى المارة وتختفين مرة أخرى كنجمٍ هارب.. و أنا أتسال بشيء من الذهول.. ترانا التقينا حقاً؟!




***





التقينا إذن..
الذين قالوا "الجبال وحدها لا تلتقي".. أخطأوا.
والذين بنوا بينها جسوراً، لتتصافح دون أن تنحني أو تتنازل عن شموخها.. لا يفهمون شيئاً في قوانين الطبيعة.
الجبال لا تلتقي إلا في الزلازل و الهزات الأرضية الكبرى، وعندما لا تتصافح، وإنما تتحول إلى تراب واحد.
التقينا إذن..

وحدثت الهزة الأرضية التي لم تك متوقّعة، فقد كان أحدنا بركاناً، وكنت أنا الضحية.

يا امرأة تحترف الحرائق. ويا جبلاً بركانياً جرف كلّ شيء في طريقه، وأحرق آخر ما تمسَّكت به.

من أين أتيت بكل تلك الأمواج المحرقة من النار؟ وكيف لم أحذر تربتك المحمومة، كشفتيْ عاشقة غجرية.

كيف لم أحذر بساطتك وتواضعك الكاذب، وأتذكّر درساً قديماً في الجغرافية: "الجبال البركانية لا قمم لها؛ إنها جبال في تواضع هضبة.." فهل يمكن للهضاب أن تفعل كلّ هذا؟

كلّ الأمثلة الشعبية تحذّرنا من ذلك النهر المسالم الذي يخدعنا هدوؤه فنعبره، وإذا به يبتلعنا. وذلك العود الصغير الذي لا نحتاط له.. وإذا به يعمينا.

أكثر من مثل يقول لن بأكثر من لهجة "يؤخذ الحذر من مأمنه". ولكن كلّ تحذيراتها لن تمنعنا من ارتكاب المزيد من الحماقات، فلا منطق للعشق خارج الحماقات والجنون. وكلما ازددنا عشقاً كبرت حماقاتنا.

ألم يقل (برنارد شو) "تعرف أنك عاشق عندما تبدأ في التصرف ضد مصلحتك الشخصية!"

وكانت حماقاتي الأولى، أنني تصرفت معك مثل سائح يزور صقلّية لأول مرة، فيركض نحو بركان (إتنا)، ويصلِّي ليستيقظ البركان النائم بعين واحدة من نومه، ويغرق الجزيرة ناراً، على مرأى من السواح المحملين بالآلات الفوتوغرافية.. والدهشة.

وتشهد جثث السواح التي تحولت إلى تراب أسود أنه لا أجمل من بركان يتثاءب، ويقذف ما في جوفه من نيران وأحجار، ويبتلع المساحات الشاسعة في بضع لحظات.

وأنّ المتفرج عليه يصاب دائماً بجاذبية مغناطيسية ما.. بشيء شبيه بشهوة اللهب، يشدّه لتلك السيول النارية، فيظل منبهراً أمامها. يحاول أن يتذكّر في ذهول كلّ ما قرأه عن قيام الساعة، وينسى بحماقة عاشق، أنه يشهد ساعتها.. قيام ساعته!

يشهد الدمار حولي اليوم، أنني أحببتك حتى الهلاك؛ وأشتهيك.. حتى الاحتراق الأخير. وصدَّقت جاك بريل عندما قال "هناك أراض محروقة تمنحك من القمح ما لا يمنحك نيسان في أوج عطائه". وراهنت على ربيع هذا العمر القاحل. ونيسان هذه السنوات العجاف.

يا بركاناً جرف من حولي كلّ شيء.. ألم يكن جنوناً أن أزايد على جنون السواح والعشاق، وكلّ من أحبوك قبلي.. فأنقل بيتي عند سفحك، وأضع ذاكرتي عند أقدام براكينك، وأجلس بعدها وسط الحرائق.. لأرسمك.

ألم يكن جنوناً.. أن أرفض الاستعانة بنشرات الأرصاد الجوية، والكوارث الطبيعية، وأقنع نفسي أنني أعرف عنك أكثر مما يعرفون. نسيت وقتها أن المنطق ينتهي حيث يبدأ الحبّ، وأنّ ما أعرفه عنك لا علاقة له بالمنطق ولا بالمعرفة.

التقت الجبال إذن.. والتقينا.
ربع قرن من الصفحات الفارغة البيضاء التي لم تمتلئ بك.
ربع قرن من الأيام المتشابهة التي أنفقتها في انتظارك.
ربع قرن على أوَّل لقاء بين رجل كان أنا، وطفلة تلعب على ركبتي كانت أنت.
ربع قرن على قبلة وضعتها على خدك الطفولي، نيابة عن والد لم يرك.

أنا الرجل المعطوب الذي ترك في المعارك المنسيّة ذراعه، وفي المجن المغلقة قلبه..

لم أكن أتوقع أن تكوني المعركة التي سأترك عليها جثّتي، والمدينة التي سأنفق فيها ذاكرتي.. واللوحة البيضاء التي ستستقيل أمامها فرشاتي، لتبقى عذراء.. وجبّارة مثلك. تحمل في لونها كلّ الأضداد.

كيف حدث كلّ هذا؟ لم أعد أدري.

كان الزمن يركض بنا من موعد إلى آخر، والحبّ ينقلنا من شهقة إلى أخرى، وكنت أستسلم لحبك دون جدل.
كان حبك قدري.. وربما كان حتفي، فهل من قوة تقف في وجه القدر؟

كان لقاؤنا يتكرر كل يوم تقريباً، كنّا نلتقي في تلك القاعة نفسها في ساعات مختلفة من النهار، فقد شاءت المصادفات أن يصادف معرضي عطلة الربيع المدرسية. وكنت تملكين ما يكفي من الوقت لزيارتي كلّ يوم. فلم يكن لك أيّ دوام جامعي.

كان عليك فقط أن تتحايلي على الآخرين بعض الشيء، وربما على ابنة عمك أكثر، حتى لا ترافقك لسبب أو لآخر.

كنت أتساءل كل مرة وأنا أودعك مردداً تلقائياً، "إلى الغد": ترانا نرتكب أكبر الحماقات ويزداد تعلقنا ببعض كلّ يوم. وربما لأنني كنت أكبرك سنّاً، كنت أشعر أنني تحمل وحدي مسؤولية ذلك الوضع العاطفي الشاذ وانحدارنا السريع والمفجع نحو الحب.

ولكن عبثاً كنت أحاول الوقوف في طريق ذلك الشلال الذي كان يجرفني إليك بقوة حبّ في الخمسين، بجنون حبّ في الخمسين، بشهية رجل لم يعرف الحبّ قبل ذلك اليوم.

كان حبك يجرفني بشبابه وعنفوانه، وينحدر بي إلى أبعد نقطة في اللامنطق.. تلك التي يكاد يلامس فيها العشق، في آخر المطاف، الجنون أو الموت..

وكنت أشعر وأنا أنحدر معك إلى تلك المتاهات العميقة داخلي، إلى تلك الدهاليز السرية للحب والشهوة، وإلى تلك المساحة البعيدة الأغوار التي لم تطأها امرأة قبلك، أنني أنزل أيضاً سلّم القيم تدريجياً، وأنني أتنكَّر دون أن أدري لتلك المثل التي آمنت بها بتطرّف، ورفضت عمراً بأكمله أن أساوم عليها.

لقد كانت القيم بالنسبة لي شياً لا يتجزأ، ولم يكن هناك في قاموسي من فرق بين الأخلاق السياسية، وبقية الأخلاق.. وكنت أعي أنني، معك، بدأت أتنكَّر لواحدة لأقنعك بأخرى.
تساءلت كثيراً آنذاك..

تراني كنت أخون الماضي، وأنا أنفرد بك في جلسة شبه بريئة، في قاعة تؤثثها اللوحات والذاكرة؟
تراني أخون أعزّ مَنْ عرفت من رجال، وأكثرهم نخوة ومروءة، وأكثرهم شجاعة ووفاءً؟

تراني سأخون سي الطاهر قائدي ورفيقي وصديق عمر بأكمله. فأدنّس ذكراه وأسرق منه زهرة عمره الوحيدة.. ووصيّته الأخيرة؟

أيمكن أن أفعل كلّ ذلك باسم الماضي، وأنا أحدِّثك عن الماضي!

ولكن.. أكنت حقّاً أسرق منك شيئاً، في تلك الجلسات التي كنت أحدِّثك فيها طويلاً عنه؟.

لا.. لم يحدث هذا أبداً، كانت هيبة اسمه حاضرة في ذهني دائماً. كانت تربطني بك وتفصلني عنك في الوقت نفسه. كانت جسراً وحاجزاً في الوقت نفسه..

وكانت متعتي الوحيدة وقتها، أن أودعك مفاتيح ذاكرتي. أن أفتح لك دفاتر الماضي المصفرّة، لأقرأها أمامك صفحة.. صفحة. وكأنني أكتشفها معك وأنا أستمع لنفسي، أقصها لأول مرة.

كنا نكتشف بصمت أننا نتكامل بطريقة مخيفة. كنت أنا الماضي الذي تجهلينه، وكنتِ أنت الحاضر الذي لا ذاكرة له، والذي أحاول أن أودعه بعض ما حمّلتني السنوات من ثقل.

كنتِ فارغة كإسفنجة، وكنت أنا عميقاً ومثقلاً كبحر.

رحت تمتلئين بي كلّ يومٍ أكثر..
كنت أجهل ساعتها أنني كنت كلما فرغت امتلأت بك أيضاً، وأنني كلما وهبتك شياً من الماضي، حوّلتك إلى نسخة منّي. وإذا بنا نحمل ذاكرة مشتركة، طرقاً وأزقة مشتركة، وأفراحاً وأحزاناً مشتركة كذلك. فقد كنَّا معاً معطوبي حرب، وضعتنا الأقدار في رحاها التي لا ترحم، فخرجنا كلُّ بجرحه.

كان جرحي واضحاً و جرحك خفياً في الأعماق. لقد بتروا ذراعي، وبتروا طفولتك. اقتلعوا من جسدي عضواً.. وأخذوا من أحضانك أبا.. كنَّا أشلاء حرب.. وتمثالين محطّمين داخل أثواب أنيقة لا غير.

أذكر ذلك اليوم الذي طلبت فيه مني لأول مرة، أن أحدَّثك عن أبيك. واعترفت بشيء من الارتباك، أنَّك جئت لزيارتي من البدء.. بهذه النية فقط. كان في صوتك شيء من الحزن المكابر.. شي من المرارة التي اكتشفتها فيك لأول مرة.

قلت:

- ما فائدة أن يمنح اسم أبي لشارع كبير، وأن أحمل ثقل اسمه الذي يردده أمامي المارة والغرباء عدة مرات في اليوم. ما فائدة ذلك إذا كنت لا أعرف عنه أكثر مما يعرفون، وإذا كان لا يوجد بينهم شخص واحد قادر على أن يحدّثني عنه حقاً؟

قلت لك متعجباً:

- ألم يحدثك عنه عمّك مثلاً؟

قلت:

- عمّي لا وقت له لهذا.. وعندما يحدث أن يذكره أمامي، يأتي كلامه وكأنه أقرب لخطبة تأبينية يتوجه بها لغرباء يستعرض أمامهم مآثر أخيه، ولا يتوجه فيها إليّ ليحدثني عن رجل هو أبي قبل كلّ شي..

الذي أريد أن أعرفه عن أبي، ليس تلك الجمل الجاهزة لتمجيد الأبطال والشهداء، والتي تقال في كلّ مناسبة عن الجميع؛ وكأنَّ الموت سوّى فجأة بين كلّ الشهداء، فأصبحوا جميعاً نسخة طبق الأصل.

يهمني أن أعرف شيئاً عن أفكاره.. بعض تفاصيل حياته.. أخطاءه وحسناته.. طموحاته السرية.. هزائمه السرية. لا أريد أن أكون ابنة لأسطورة، الأساطير بدعة يونانية. أريد أن أكون ابنة لرجل عادي بقوّته وبضعفه، بانتصاراته وبهزائمه. ففي حياة كلّ رجل خيبة ما وهزيمة ما، ربما كانت سبباً في انتصار آخر.

حلّ شيء من الصمت بيننا..
كنت أتأملك وأغوص في أعماق نفسي. رحت أبحث عن الحدّ الفاصل بين هزائمي وانتصاراتي. لم أكن في تلك اللحظة نبيّاً، ولا كنت أنت آلهة إغريقية.. كنّا فقط تمثالين أثريين قديمين محطمَي الأطراف، يحاولان ترميم أجزائهما بالكلمات. فرحت أستمع إليك وأنت ترمِّمين ما في أعماقك من دمار.

قلت:

- يحدث أن أشعر أنني ابنة لرقم فقط، رقم بين مليون ونصف مليون رقم آخر. ربما كان بعضها أكبر أو أصغر، ربما كتب اسم بعضها بخط أكبر أو أصغر من خطّ آخر، ولكنها جميعاً أرقام لمأساة ما.

وأضفتِ:

- أن يكون أبي أورثني اسماً كبيراً، هذا لا يعني شيئاً. لقد أورثني مأساة في ثقل اسمه، وأورث أخي الخوف الدائم من السقوط، والعيش مسكوناً بهاجس الفشل، وهو الابن الوحيد للطاهر عبد المولى الذي ليس من حقه أن يفشل في الدراسة ولا في الحياة، لأنه ليس من حق الرموز أن تتحطم. والنتيجة، أنه تخلى عن دراسته الجامعية وهو يكتشف عبثية تكديس الشهادات، في زمن يكدّس فيه الآخرون الملايين. ربما كان على حق، فالشهادات هي آخر ما يمكن أن يوصلك اليوم إلى وظيفة محترمة.

لقد رأى أصدقاءه الذين تخرجوا قبله، ينتقلون مباشرة إلى البطالة أو إلى موظَّفين برواتب وأحلام محدودة، فقرَر أن ينتقل إلى التجارة. ورغم أنني أشاطره رأيه، إلا أنه يحزنني أن يتحول أخي وهو في عزّ شبابه، إلى تاجر صغير يدير محلاً تجارياً وشاحنة وهبتها له الجزائر كامتياز بصفته ابن شهيد. لا أعتقد أن أبي كان يتوقَّع له مستقبلاً كهذا!

قاطعتك في محاولة لتخفيف تذمرك:

- إنه لم يتوقع أيضاً لك مستقبلاً كهذا. لقد ذهبت أبعد من أحلامه؛ إنك الوريثة لكلّ طموحاته ومبادئه. كان رجلاً يقدّس العلم والمعرفة، ويعشق العربية، ويحلم بجزائر لا علاقة لها بالخرافات والعادات البالية التي أرهقت جيله وقضت عليه. إنك لا تعين أن يكون لك اليوم هذا الحظ الاستثنائي، في وطن يمنحك فرصة أن تكوني فتاة مثقَّفة، يمكنها الدراسة والعمل وحتى الكتابة..

أجبت بشيء من السخرية:

- قد أكون مدينة للجزائر بثقافتي أو بعلمي، ولكن الكتابة شي آخر لم يمنّ به أحد عليّ. نحن نكتب لنستعيد ما أضعناه وما سرق خلسة منّا.. كنت أفضِل أن تكون لي طفولة عادية وحياة عادية، أن يكون لي أب وعائلة كالآخرين؛ وليس مجموعة من الكتب وجزمة من الدفاتر. ولكن أبي أصبح ملكاً لكل الجزائر، ووحدها الكتابة أصبحت ملكي.. ولن يأخذها منِّي أحد!

أذهلني كلامك. ملأني بأحاسيس متناقضة. أحزنني، ولكنه لم يوصلني إلى حد الشفقة عليك. إنَّ امرأة ذكية لا تثير الشفقة. إنها دائماً تثير الإعجاب حتى في حزنها. وكنت معجباً بك، بجرحك المكابر، بطريقتك الاستفزازية في تحدّي هذا الوطن. كنت تشبهينني أنا الذي كنت أرسم بيد لأستعيد يدي الأخرى. كنت أفضِّل لو بقيت رجلاً عاديا بذراعين اثنتين، لأقوم بأشياء عادية يومية، ولا أتحول إلى عبقري بذراع واحدة، لا تتأبط غير الرسوم واللوحات.

لم يكن حلمي أن أكون عبقرياً ولا نبياً ولا فناناً رافضاً ومرفوضاً. لم أجاهد من أجل هذا. كان حلمي أن تكون لي زوجة وأولاد، ولكن القدر أراد لي حياة أخرى، فإذا بي أب لأطفال آخرين وزوج للغربة والفرشاة.. لقد بتروا أيضاً أحلامي.

قلت لك:

- لن يأخذ أحد منك الكتابة.. إن ما في أعماقنا هو لنا ولن تطوله يد أحد.

قلتِ:

- ولكن ليس في أعماقي شيء سوى الفراغات المحشوة بقصاصات الجرائد.. بنشرات الأخبار، وبكتب ساذجة ليس بيني وبينها من قرابة.

ثم أضفت وكأنك تودعينني سراً:

- أتدري لماذا كنت أحبّ جدّتي أكثر من أي شخص آخر.. وأكثر حتى من أمّي؟ إنها الوحيدة التي كانت تجد متسعاً من الوقت لتحدِّثني عن كلِّ شيء.. كانت تعود إلى الماضي تلقائياً، وكأنها ترفض الخروج منه. كانت تلبس الماضي.. تأكل الماضي.. ولا تطرب سوى لسماع أغانيه.

كانت تحلم بالماضي في زمن كان الآخرون يحلمون فيه بالمستقبل. ولذا كثيراً ما تحدّثني عن أبي دون أن أطلب منها ذلك، فقد كان أجمل ما في ماضيها الأنثوي العابر. وكانت لا تتعب من الحديث عنه، كأنها تستعيده بالكلمات وتستحضره. كانت تفعل ذلك بحسرة الأم التي ترفض أن تنسى أنها فقدت بكرها إلى الأبد.. ولكنها لم تكن تقول لي عنه أكثر مما تقوله أم عن ابنها. كان الطاهر هو الأجمل.. هو الأروع.. هو الابن البارّ الذي لم يجرحها يوماً بكلمة.

يوم الاستقلال بكت جدّتي كما لم تبك يوماً. سألتها "أمّا.. لماذا تبكين وقد استقلَّت الجزائر؟" قالت: "كنت في الماضي أنتظر الاستقلال ليعود لي الطاهر، اليوم أدركت أنني لم أعد أنتظر شيئاً".

يوم مات أبي لم تزغرد جدّتي كما في قصص الثورة الخياليّة التي قرأتها فيما بعد. وقفت في وسط الدار وهي تشهق بالبكاء وتنتفض عارية الرأس مرددة بحزن بدائي: " يا وخيدتي.. يا سوادي.. آه الطاهر أحنَاني لمن خلّيتني.. نروح عليك أطراف".

وكانت أمي تبكي بصمت وهي تحاول تهدئتها، وكنت أنا أتفرج عليهما وأبكي دون أن أفهم تماماً أنني أبكي رجلاً لم أره سوى مرَّات.. رجلاً كان أبي.

لماذا كان ذكرك لـ ( أمّا الزهرة) يثير دائماً فيّ تلك العواطف الغامضة، التي كانت جميلة ودافئة قبل ذلك اليوم، والتي أصبحت فجأة موجعة حدّ البكاء؟

مازلت أذكر ملامح تلك العجوز الطيبة التي أحبّتني بقدر ما أحببتها والتي قضيت طفولتي وصباي متنقلاً بين بيتها وبيتنا. كان لتلك المرأة طريقة واحدة في الحبّ، اكتشفت بعدها أنها طريقة مشتركة لكلّ الأمهات عندنا. إنها تحبّك بالأكل، فتعد من أجلك طبقك المفضل وتلاحقك بالأطعمة، وتحمّلك بالحلويات، وبالكسرة والرخسيس الذي انتهت لتوِّها من إعداده.
Admin
Admin
Admin
Admin

المساهمات : 49
تاريخ التسجيل : 31/07/2013
العمر : 36
الموقع : السودان

https://storylove.3oloum.com

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

مُشاطرة هذه المقالة على: reddit

ذاكره الجسد :: تعاليق

لا يوجد حالياً أي تعليق

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى